إنه الإيثار؛ العمل القلبي الذي يصرفه كثير من الناس إلى إيثار الخلق في أمور الحياة كالطعام واللباس ونحوها.
ولكن المعنى هنا أكبر والحديث أعظم؛ إنه إيثار الرب تبارك وتعالى وتقديم محبته على محبة غيره، والإقبال إلى محابه وعدم الالتفات إلى أي محبوب سواه.
إن الناس قد يسهل عليهم إيثار الخلق في أمور الدنيا، ولكن قد يصعب على كثير منهم إيثار الرب تبارك وتعالى.
لعل من صنوف البلاء وأنواع المحن التي قد تخفى على بعض الناس " الابتلاء بالإيثار الرباني ".
والمعنى: أنه قد تتزاحم عندك المحبوبات ويكون داعي النفس لها أكبر، ولكن وفي نفس الوقت يكون مراد الرب غير ذلك.
فيا ترى هل ستؤثر مراد الرب أو ستأخذ مراد النفس؟!.
والمثال يوضح المقصود:
- عند الرغبة في النوم هل ستحقق مراد النفس في الميل للنوم، أم ستبادر إلى صلاة الوتر التي هي عبادة الليل.
- عندما تكون فتنة في إظهار كلمة الحق في وقت تخفى على الناس، وقد أحجم عنها كثير ممن تلبس بالعلم، والحاجة إلى إظهارها ملحة، فهل يا ترى ستؤثر مراد الرب في بيانها عملاً بقوله تعالى: (( وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ))[البقرة:42] أم أنك ستلتزم الصمت حفاظاً على مراد النفس ورضا أكثر الخلق لتسلم من فتنة الصدع بالحق؟!.
- عندما تكون أنت في مقام الدعوة إلى الله وتكون الأنظار إليك، ولكن داعي الأسرة والأقارب يطالبك بالتوقف أو التأخر، فيا ترى هل ستلبي رغبتهم أم أنك ستواصل الطريق مع مراعاة الحقوق التي لهم؟!.
إن المتأمل في سبب نزول: (( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ.. ))[الحشر:9] هو أن الصحابي آثر الضيف بتلك اللقيمات فكانت النتيجة ( لقد ضحك الله من صنيعكما بضيفكما البارحة ) وفي رواية: ( لقد عجب الله.. ) . صحيح [ صحيح الجامع: 4375 ].
فإذا كان من آثار الخلق على فتات الطعام نال هذا من الله، فكيف بالذي يؤثر مرضاة ربه على محبة الخلق وشهوات الدنيا؟! لا شك أن ثوابه كبير وعظيم.
إن الذي يؤثر ربه تبارك وتعالى سيجد نوعاً من الصعوبات في بداية الطريق " ليتأخر من ليس من أهل الإيثار، فإذا احتملها وتقدم انقلبت تلك المحن منحاً .
ومن روائع ابن القيم في هذا الباب قوله :
وهذا معروف بالتجربة الخاصة والعامة، فإنه ما آثر عبدٌ مرضاة الله عز وجل على مرضاة الخلق وتحمل ثقل ذلك ومؤنته وصبر على محنته إلا أنشأ الله من تلك المحنة والمؤنة نعمة ومسرة، ومعونة بقدر ما تحمل من مرضاته، فانقلبت مخاوفه أماناً فيا خيبة المتخلفين وياذلة المتهيبين ".
وقال: " هذا مع أن رضا الخلق لا مقدور ولا مأمور ولا مأثور فهو مستحيل بل لا بد من سخطهم عليك، فلأن يسخطوا عليك وتفوز برضى الله عنك أحب إليك وأنفع لك من أن يسخطوا عليك والله عنك غير راض ".
وقال: " فمن آثر رضا الله فلا بد أن يعاديه رذالة العالم وسقطهم وجهالهم وأهل البدع والفجور، وأهل الرياسات الباطلة.. " .
وقال عن الذي يؤثر رضا الله: " فهو يريد ويفعل ما فيه مرضاته، ولو أغضب الخلق وهي درجة الأنبياء، وأعلاها للرسل عليهم صلوات الله وسلامه وأعلاها لأولي العزم منهم.
وأعلاها لنبينا صلى الله عليه وسلم فإنه قاوم العلم كله وتجرد للدعوة إلى الله، واحتمل عداوة البعيد والقريب في الله تعالى، وآثر رضا الله على رضا الخلق من كل وجه، ولم يأخذ في إيثار رضاه لومة لائم.
بل كان همه وعزمه وسعيه كله مقصور على إيثار مرضاة الله وتبليغ رسالاته وإعلاء كلمته، وجهاد أعدائه حتى ظهر دين الله على كل دين وقامت حجته على العالمين، وتمت نعمته على المؤمنين، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، فلم ينل أحد من درجة هذا الإيثار ما نال صلوات الله وسلامه عليه.
ولعلك تقول: وكيف أصل إلى درجة هذا الإيثار فقد طال شوقي له، وسمت همتي إليه، فأقول:
قال ابن القيم: وملاك ذلك أمران:
الأول: الزهد في الحياة.
الثاني: الزهد في الثناء: فما ضعف من ضعف وتأخر من تأخر إلا بحبه للحياة والبقاء وثناء الناس عليه ونفرته من ذمهم له، فإذا زهد في هذين الشيئين تأخرت عنه العوارض كلها، وانغمس حينئذ في العساكر.
وملاك هذين الشيئين: صحة اليقين وقوة المحبة.
وملاك هذين بشيئين أيضاً: بصدق اللجأ والطلب، والتصدي للأسباب الموصلة إليهما، فإلى هنا تنتهي معرفة الخلق وقدرتهم والتوفيق بعدُ بيد من أزمة الأمور كلها بيده " .
وفي نهاية هذه الجولة في الإيثار لعلك تعرفت على بعض الصور وشيء من الإشارات حول هذا العمل القلبي، فالزم عتبة العبودية وكن بصيراً بمواطن المحن التي ستظهر لك حقيقة محبتك لربك جل وعلا واحذر من تقديم محابك على محابه.
تحيااتوو
هلاليه وافتخر